((إنَّ الله إذا أحبَّ قوماً ابتلاهم، فمنْ رضي فله الرِّضا، ومنْ سخطَ فَلَهُ السَّخْطُ)) . (( أشدُّ الناسِ بلاء الأنبياءُ ، ثمَّ الأمثلُ فالأمثلُ يُبتلى الرجلُ على قدرِ دينهِ ، فإنْ كان في دينهِ صلابةٌ أشتدَّ بلاؤه ، وإن كان في دينه رقَّةٌ ابتُلي على قدرِ دينه ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ ، حتى يتركهُ يمشي على الأرضِ وما عليه خطيئةٌ )) . (( عجباً لأمرِ المؤمنِ إنَّ أمرَّهُ كلَّه خيرٌ !! وليس ذاك لأحدِ إلا للمؤمنِ ، إن أصابتْه سرَّاء شكر فكان خيراً له ، وإنْ أصابتهُ ضرَّاء صبر فكان خيراً له )) . (( واعلمْ أنَّ الأمة لو اجتمعتْ على أنْ ينفعوك بشيءٍ لم ينفعوك إلا بشيءٍ قد كتبُ اللهُ لك ، وإنِ اجتمعوا على أنْ يضرُّوك بشيءٍ لم يضروك إلا بشيءٍ قدْ كتبهُ اللهُ عليك )). (( يُبتلى الصالحون الأمثلُ فالأمثلُ )) . (( المؤمنُ كالخامةِ من الزرعِ تُفيِّئُها الريحُ يَمنْةً ويَسْرةً )) . ******************************************** حتَّى في سكراتِ الموتِ تبسَّمْ
فهذا أبو الريحانِ البيرونيُّ ( ت440 ) ، مع الفسحةِ في التعميرِ فقدْ عاش 78 سنةً مُكِبّاً على تحصيلِ العلومِ ، مُنْصَبّاً إلى تصنيفِ الكتبِ ، يفتحُ أبوابها ويحيطُ بشواكلِها وأقرابِها – يعنى : بغوامضِها وجليّاتِها – ولا يكادُ يفارقُ يده القلمُ ، وعينه النظرُ ، وقلبه الفكرُ ، إلا فيما تمسُّ إليه الحاجةُ في المعاشِ منْ بُلْغة الطعامِ وعلقةِ الرياشِ ، ثم هِجِّيراهُ – أي دَيْدَنُهُ – في سائرِ الأيامِ من السنةِ : علمٌ يُسفرُ عن وجههِ قناع الإشكالِ ، ويحسرُ عن ذراعيْةِ أكمالُ الإغلاقِ . حدَّث الفقيهُ أبو الحسنِ عليُّ بنُ عيسى ، قال : دخلتُ على أبي الريحانِ وهو يجودُ بِنفْسِهِ – أيْ وهو في نزْعِ الروحِ قارب الموتَ – قد حشرجتْ نفسُهُ ، وضاق بها صدرُهُ ، فقال لي في تلك الحالِ : كيف قلت لي يوماً حسابُ الجدَّاتِ الفاسدةِ ؟ أيْ الميراثُ ، وهي التي تكونُ من قِبل الأمِّ ، فقلتُ له إشفاقاً عليه : أفي هذهِ الحالةِ ؟ قال لي : يا هذا ، أودِّعُ الدنيا وأنا عالمٌ بهذهِ المسألة ، ألا يكون خيراً من أنْ أخلِّيها وأنا جاهلٌ بها ؟! فأعدتُ ذلك عليهِ ، وحفِظَ وعلَّمني ما وعد ، وخرجتُ من عندِهِ فسمعتُ الصراخ!! إنها الهممُ التي تجتاحُ ركام المخاوفِ . والفاروقُ عمرُ في سكراتِ الموتِ ، يثعبُ جرحُه دماً ، ويسألُ الصحابة : هلْ أكمل صلاتهُ أمْ لا ؟! . وسعدُ بنُ الربيع في (( أُحدٍ)) مضرَّج بدمائِهِ ، وهو يسألُ في آخرِ رَمَقٍ عن الرسولِ ، إنها ثباتةُ الجأشِ وعمارُ القلبِ ! وقفتَ ما في الموتِ شكٌّ لواقفِ
كأنك في جفنِ الردى وهو نائمُ
تمرُّ بكَ الأبطالُ كلمى هزيمةً
ووجهُك وضاحٌ وثغرُك باسمُ
قال إبراهيمُ بنُ الجراحِ : مرض أبو يوسف فأتيتُه أعودُه ، فوجدتُه مُغْمىً عليهِ ، فلمَّا أفاق قال لي : ما تقولُ في مسألةٍ ؟ قلتُ : في مثلِ هذه الحالِ ؟! قال : لا بأس ندرسُ بذلك لعلَّه ينجو به ناجٍ . ثم قال : يا إبراهيمُ ، أيُّما أفضلُ في رمي الجمارِ : أن يرميها الرجلُ ماشياً أو راكباً ؟ قلتُ : راكباً . قال : أخطأت . قلتُ : ماشياً . قال : أخطأت . قلتُ : أيُّهما أفضلُ ؟ قال : ما كان يُوقفُ عندهُ فالأفضلُ أنْ يرميه ماشياً ، وأما ما كان لا يُوقفُ عنده ، فالأفضلُ أن يرميه راكباً ، ثم قمتُ من عندهِ فما بلغتُ باب دارِهِ حتى سمعتُ الصراخ عليه وإذا هو قدْ مات . رحمةُ الله عليه . قال احدُ الكُتَّابِ المعاصرين : هكذا كانوا !! الموتُ جاثمٌ على رأسِ أحدِهِمْ بكُربِهِ وغُصَصِهِ ، والحشرجةُ تشتدُّ في نفسِهِ وصدرِهِ ، والأغماءُ والغشيانُ محيطٌ بهِ ، فإذا صحا أو أفاق من غشيتِهِ لحظاتٍ ، تساءل عنْ بعضِ مسائلِ العلمِ الفرعيَّةِ أو المندوبةِ ، ليتعلَّمها أو ليعلِّمها ، وهو في تلك الحالِ التي أخذ فيها الموتُ منه الأنفاس والتلابيب . في موقفٍ نسي الحليمُ سدادهُ ويطيشُ فيه النابِهُ البيْطارُ
يا للهِ ما أغلى العلم على قلوبِهمْ !! وما أشغلَ خواطرهُمْ وعقولَهُمْ به !! حتى في ساعةِ النزعِ والموتِ ، لم يتذكروا فيها زوجةً أو ولداً قريباً عزيزاً ، وإنما تذكروا العلم !! فرحمةُ اللهِ تعالى عليهمْ . فبهذا صاروا أئمة في العلمِ والدِّينِ . ********************************* أسرارُ الشدائدِ
أورد المؤرخُ الأديبُ أحمدُ بنُ يوسف الكاتبُ المصريُّ في كتابِهِ المعجبُ الفريدُ (المكافأةُ وحسنُ العُقبى ) فقال : وقدْ علم الإنسانُ أن سُفورَ الحالةِ – أي انكشاف الغُمَّةِ والشدَّةِ – عن ضدِّه ، حَتْمٌ لابدَّ منه ، كما علم أنَّ انجلاء الليلُ يسفرُ عن النهار ، ولكنَّ خور الطبيعةِ أشدُّ ما يلازمُ النفس عندَ نزولِ الكوارثِ ، فإذا لم تُعالجْ بالدواءِ ، اشتدّتِ العلةُ ، وازدادتِ المحنةُ ، لأن النفس إذا لم تُعَنْ عند الشدائدِ بما يجدّدُ قُواها ، تولَّى عليها اليأسُ فأهلكها . والتفكُّرُ في أخبارِ هذا البابِ – بابِ أخبارِ من ابتلي فصبر ، فكان ثمرةُ صبرِه حسن العقبى – ممَّا يُشجِّع النفْس ، ويبعثُها عن ملازمةِ الصبرِ وحسنِ الأدبِ مع الربِّ عزَّ وجلَّ ، بحسنِ الظنِّ في موافاةِ الإحسانِ عند نهايةِ الامتحانِ . وقال أيضاً – في آخر الكتابِ - : « خاتمةٌ : قال بُزُرْجمْهَرُ : الشدائدُ قبل المواهبِ ، تشبهُ الجوع قبل الطعامِ ، يحسُّ بهِ موقُعُهُ ، ويلذُّ معه تناولهُ » . وقال أفلاطونُ : « الشدائدُ تُصلِحُ من النفسِ بمقدارِ ما تفسدُ من العيشِ ، والتَّترُّف – أي الترفُ والترفُّه – يفسدُ من النفسِ بمقدارِ ما يصلحُ من العيشِ » . وقال أيضاً : « حافظ على كلِّ صديقٍ أهدتْه إليك الشدائدُ ، والْه عنْ كلِّ صديقٍ أهدتْه إليك النعمةُ » . وقال أيضاً : « الترفُّفهُ كالليلِ ، لا تتأملْ فيه ما تصدرُه أو تتناولُه ، والشدة كالنهارِ ، ترى فيها سعيك وسعي غيرِك » . وقالُ أزدشير : « الشدَّةُ كُحْلٌ ترى به ما لا تراه بالنعمة » . ويقول أيضاً : « ومِلاكُ مصلحةِ الأمرِ في الشدَّةِ شيئان : أصغرُهما قوةُ قلبِ صاحبِها على ما ينوبُه ، وأعظمُها حُسْنُ تفويضِهِ إلى مالكِهِ ورازقِهِ » . وإذا صَمَدَ الرجلُ بفكرِهِ نَحْوَ خالقِهِ ، علم أنهُ لمْ يمتحِنْه إلا بما يوجبُ له مثوبةً ، أو يمحِّصُ عنه كبيرةً ، وهو مع هذا من اللهِ في أرباحٍ متصلةٍ ، وفوائد متتابعةٍ . فأما إذا اشتدَّ فكرُهُ تلقاء الخليقةِ ، كثرتْ رذائلُه ، وزاد تصنُّعه ، وبرِم بمقامِه فيما قصُر عن تأمُّلهِ ، واستطال من المِحنِ ما عسى أن ينقضي في يومِهِ ، وخاف من المكروهِ ما لعلَّه أنْ يخطئهُ . وإنما تصدقُ المناجاةِ بين الرجلِ وبين ربِّهِ ، لعلمِهِ بما في السرائرِ وتأييدِهِ البصائر ، وهي بين الرجلِ وبين أشباهِهِ كثيرةُ الأذيةِ ، خارجةٌ عن المصلحةِ . وللهِ تعالى رَوْحٌ يأتي عند اليأسِ منهُ ، يُصيبُ به منْ يشاءُ من خلقِهِ ، وإليهِ الرغبةُ في تقريبِ الفرجِ ، وتسهيلِ الأمرِ ، والرجوعِ إلى أفضلِ ما تطاول إليه السُّؤْلُ ، وهو حسبي ونِعْم الوكيلُ . طالعتُ كتاب ( الفرجُ بعد الشدةِ ) للتنوخيِّ ، وكرَّرتُ قراءته فخرجتُ منه بثلاثِ فوائدَ : الأولى : أنَّ الفرج بعد الكربِ سنَّةٌ ماضيةٌ وقضيةٌ مُسلَّمةٌ ، كاليحِ بعد الليلِ ، لا شكَّ فيه ولا ريب . الثانيةُ : أنَّ المكاره مع الغالبِ أجملُ عائدةً ، وأرفعُ فائدةً للعبدِ في دينِهِ ودنياهُ من المحابِّ . الثالةُ : أنَّ جالب النفعِ ودافع الضرِّ حقيقةٌ إنما هو الله جلَّ في علاه ، واعلمْ أنّ ما أصابك لم يكنْ لِيخطِئك وما أخطأك لمْ يكنْ ليصيبك . ************************************** ............. تحياااتي ...للكل’’’